الأستاذ سعيد حوى "رحمه الله" من المعلوم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص، فصوم القلب عن الهموم الدنية، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله (عز وجل) بالكلية، ويحصل الفطر (المجازي) في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله (عز وجل) واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا، وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين، ولا تطوِّل النظر في تفصيلها قولا ولكن في تحقيقها عملا، فإنه إقبال بكُنه الهمة على الله (عز وجل) وانصراف عن غير الله (سبحانه) وتلبس بمعنى قوله عز وجل: {قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} .. الأنعام: 91
وأما صوم الخصوص وهو صوم الصالحين؛ فهو كفّ الجوارح عن الآثام، وتمامه بستة أمور:
الأول: غضُّ البصر وكفُّه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذم ويُكرَه، وإلى كل ما يشغل القلب، ويلهي عن ذكر الله (عز وجل)، قال (صلى الله عليه وسلم): "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس –لعنه الله–؛ فمن تركها خوفًا من الله آتاه الله (عز وجل) إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" (أخرجه الحاكم، وصحح إسناده).
الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان، والكذب، والغيبة، والنميمة، والفحش، والجفاء، والخصومة، والمراء، وإلزامه السكوت، وشغله بذكر الله (سبحانه)، وتلاوة القرآن؛ فهذا صوم اللسان. وقد قال سفيان: "الغيبة تفسد الصوم" (رواه بشر بن الحارث عنه). وروى ليث عن مجاهد: "خصلتان تفسدان الصيام: الغيبة، والكذب". قال (صلى الله عليه وسلم): "إنما الصوم جُنَّة؛ فإذا كان أحدكم صائمًا؛ فلا يرفث، ولا يجهل، وإن امرأ قاتله أو شاتمه؛ فليقل: إني صائم، إني صائم" (أخرجه مسلم والبخاري)
الثالث: كفّ السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه؛ لأن كل ما حرُم قوله حرُم الإصغاء إليه؛ ولذلك سوَّى الله (عز وجل) بين المستمع وآكل السحت، فقال تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42)، وقال عز وجل: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} (المائدة: 62)؛ فالسكوت على الغيبة حرام، وقال تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} (النساء: 140)
الرابع: كفُّ بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكفّ البطن عن الشبهات وقت الإفطار؛ فلا معنى للصوم، وهو الكفّ عن الطعام الحلال، ثم الإفطار على الحرام! فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرًا ويهدم مصرًا؛ فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهًا. والحرام سهم مهلك للدين. والحلال دواء ينفع قليله، ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله. وقد قال (صلى الله عليه وسلم): "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش". فقيل: هو يفطر على الحرام، وقيل: هو الذي يمسك عن الطعام الحلال، ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقيل: هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام
الخامس: ألا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار؛ بحيث يمتلئ جوفه؛ فما من وعاء أبغض إلى الله (عز وجل) من بطن مُلئ من حلال، وكيف يُستفاد من الصوم في قهر عدو الله، وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته صحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام؟! حتى استمرت العادات بأن تُدَّخر جميع الأطعمة لرمضان؛ فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء، وكسر الهوى؛ لتقوى النفس على التقوى.
وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها، وقويت رغبتها، ثم أُطعمت من اللذات، وأُشبعت زادت لذتها، وتضاعفت قوتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها. فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل؛ وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصُمْ، بل من الآداب ألا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى؛ فيصفو عند ذلك قلبه، ويستديم في كل ليلة قدرًا من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده؛ فعسى الشيطان ألا يحوم على قلبه؛ فينظر إلى ملكوت السماء.
وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت (أي من عالم الغيب)، وهو المراد بقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.. (القدر: 1)، ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاه من الطعام فهو عنه محجوب. ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله (عز وجل)، وذلك هو الأمر كله. ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام.
السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقًا مضطربًا بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدري أيُقبل صومه؛ فهو من المقربين، أو يُرد عليه؛ فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها؛ فقد روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مرّ بقوم، وهم يضحكون، فقال: "إن الله (عز وجل) جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته؛ فسبق قوم ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا؛ فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون!!
قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم؟! ولذة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين. ولذلك قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر! وكم من مفطر صائم! وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إن الصوم أمانة؛ فليحفظ أحدكم أمانته" (أخرجه الخرائطي، وإسناده حسن).
المصدر : موقعإسلام أون لاين