أنا والجميلة
استحلفك أن تقف جواري.، لا تظلمني كما ظلمني الآخرون. لا تحاسبني على خطيئة مر عليها زمن ودفعت ضريبتها مرارة السنوات.
أنا فتاة جاءتك تبحث في داخلك عن طبيب وأحسبها لم تخطئ الاسم والمكان والعنوان .. فتاة بينها وبين الفرحة أيام. فستان الزفاف يناديها ومساحيق اللون تخطب ملامحها. وزغرودة أمها تصدح في الأركان ولكن داخلها يا صديقي مصاب ومجروح ومهزوم فتاة ليس لفرحتها بكارة وليس لعفتها دليل.
أنا اليوم بين يديك فريسة سهلة فعاملني بقوة الرجل لا بضعف الإنسان. دواني ولا تجردني من آخر ورقة توت أحفظ بها سترى المجروح... يا صديقي.. كما الخطايا لا تنسى وكما لجراح الأمس نزيف. تبقى وقفات الرجال عنوانا لبقايا البقايا من بشر نظيف.
@@@@@@
جاءت تطرق باب مكتبه المتواضع حاملة رسالة رقيقة كتبها له عزيز.. الرسالة لا تزيد كلماتها عن خمس (أرجو الاهتمام.. فحاملة الخطاب تستحق) فقط هذه هي الكلمات والبقية قرأها على ملامح هذا الوجه الأنثوى الفاتن. جميلة هي حقا إلى درجة تثير التساؤل والفضول وكذا جرأة الرجال.
تجمّل أمامها ونمّق العبارات وأبدى لها قدرة مزعومة على اجتياز أسوار المؤسسات والدوائر الحكومية وأشعرها أن وزراء الدولة له أصدقاء وأن كلمته لديهم مسموعة لا ترد. استطرد في الحكايا وابتسم كثيرا واستدعى من أجلها النكات.أما هي فقد رأته بعيونها رجل رغبة وتأكد لها إنه صنف من الرجال تكفيه قبلة واحدة من امرأة ليهدم بعدها أسوار عكا وربما يبنيها من جديد.
ما جاءت من أجله رفضت الإفصاح عنه وكأنها تدخره لقضية أهم..قضية تحتاج لرجل بهذه المواصفات.. رجل يهرول للبسمات الملقاة على الطريق كما تهرول الكلاب لقطع اللحم العفن.
قالت بصوت هادئ النبرات.. يكفينني اليوم أنني وصلت لهذا المكان وتعرفت على شخصية ذات ثقل وحضور. أتمنى أن يجمعنا لقاء قريب فمطالبي لا تنتهي وأعلم أن مثلك بها جدير .
استأذنته وعلى باب المصعد أهدته ابتسامه رقيقة ولوّحت له بتحية الوداع.. وتركته هكذا يعيش دنيا غير الدنيا وعالما غير العالم. عاد لمكتبه المملوء بعطر الأنفاس الجميلة وبدأ يستعيد حوارها كلمة كلمة ويسأل نفسه لماذا لم تفصح الجميلة عن طلبها؟ وأي الأعباء تلك التي أنا بها جدير؟ ولماذا غاب عني أن استأذنها رقم الهاتف ووسط زحام الأسئلة التي قفزت إلى ذاكرته لم ينس أن يسأل نفسه لماذا الكذب ومن أنت لتجتاز أسوار المؤسسات والدوائر وتأمر الوزراء فلا يردون لك أمرا.
أسبوع كامل لم يسمع لها صوتا حتى انتابه شعور قارب اليقين أنه رغم كل ما قدمه من قرابين الحكايا والكلمات لم ينل من الجميلة إلا نظرات السخرية والنفور وتأكد له أن وداع المصعد كان هو البداية وفي نفس الوقت كان هو الختام.
وعلى غير ميعاد أهداه الهاتف صوتها الجميل وبدلا من أن يتماسك تماسك الرجال ويتصنع ثبات الواثقين أمطرها بسيل من كلمات العتاب ليؤكد لها وللمرة الثانية إنه رجل من ورق لا يقوى على هواء الجميلات ولا يتحمل غيابهن الطويل.
قالت.. (موانع عدة حالت دون الاتصال فبيتنا شديد التحفظ وعيون أبي وأمي ترقب الخطوات وتعد عليّ الانفاس.. سامحني ان تأخرت عليك )
لا لن أسامح فأنا أريد أن أراك.. أريد ان أحدثك في أمور تحتاج منك إلى جواب.
وهكذا تبدّل الحال بأمر الجمال.. فبالأمس جاءته تسأل واليوم يستجدي منها أقل الكلمات. قالت سأحاول غدا أن أراك واتفقا سويا على ميعاد في مكان موصوف بالشاعرية لا يرتاده الا العاشقون. هو لا يدري من الذي اختار المكان ومن الذي حدد الموعد والميقات.
المهم إنه سيراها من جديد وينعم بجميلة الجميلات لساعات. ذهب رجل الورق كما أسمته إلى المكان قبل الموعد بساعة كاملة ووقتما جاءت بدت أنظار الجالسين إليها تتجه. حتى النساء كن يبتسمن لها ابتسامة التحية. أما هو فكان مزهوا بالتفاته هؤلاء. التفاتة ترضي غرور الرجال الفائزين بغنيمة الجمال.
تجاذبا أطراف الحديث، اقتنص منها ضحكات ذات صوت عال ومنحته كلمات إعجاب بصوت خفيض. كانت صامته في أغلب الأوقات وكأنها كانت تزن هذا الرجل بميزان عقلها وتسأل نفسها هل يمكن لهذا الرجل أن يحفظ وديعتي أم إنه باحث كغيره عن نزوة رخيصة ومتعة تهديها إليه الأجساد.
سألها عن صمتها وكان الجواب مزيدا من شرود ولأنه رجل لا يريد أن يفسد أجواء اللحظة رفض النبش في الخبايا وتقبل الشرود واكتفى أن يشارك الجميلة ساعات من نهار.
بعدها لم يكن حلما بعيدا أن يراها، ولم يكن بجديد أن يجمعهما أكثر من لقاء.. الوجوه تلاقت بلا حجاب ولكن يبقى الحجاب ساترا لمضمون الرسالة ذات الكلمات القليلة فالجميلة لم تفصح بعد عن مطلبها.
حتى جاء اللحظة وجمعهما نفس الموقع الشاعري الحالم ولكن ليكون هذه المرة شاهدا على أول قطرة دمع تسقط من عين الجميلة.. قطرة دمع كان الدافع إليها حاجة المكروب لا وخز الضمير.
وبدأت حديثها بكلمة يا صديقي.. وقبل أن يبدي اعتراضا قالت يكفي أن أناديك بهذه الكلمة لا تتوسم مني أكبر من حدود هذا التعبير...لا أنكر أنك صرت واحة لراحتي وصدرا إليه أطمئن.. اسمح لي يا من طرقت بابك برسالة ذات كلمات أن اطرق الآن رجولتك بحكاية ذات وجع وألم.
يا صديقي لا تنظر لمفاتن جسدي وتقاسيم ملامحي ولا يغرنك نظرات إعجاب الغير بي فانا أرى نفسي جيدا فى مرآة بيتي وأدرك كم أنا فتاة قبيحة من داخلها.. فتاة بلا ساتر يحميها ولا غطاء يواري ستر أيامها. اسمع يا صديقي الحكاية ولا تكن سوطا يجلدني فظهري ما عاد يحتمل مزيدا من سياط.
منذ سنوات خمس داهم حياتي رجل رأيته بعيون الصغيرات فارس أيامي المقبلة، تعاملت معه بعفوية بكر ووهبته أصدق المشاعر وبادلته يا صديقي عواطف لا تعرف الزيف ولا الكذب ولكنه كان رجلا يدرك الهدف.. رجل حدد لعلاقته معي عمرا لا تزيد أيامه ولا تنقص.. وصل معي لمأربه الرخيص وجردني من عفة الفتيات وسرق مني بكارة الشرف بل وألقى بى في طريق بلا منتهى.
لا لا تجيب انتظر حتى أكمل الحكاية.. هذه الأعوام الخمس التي مرت بي كخمسين عاما خلقت مني فتاة أخرى أكسبتني مناعة من نوع خاص، علمتني مفردات لغة النباح وبدأت أعرف كلاب البشر من ملامحهم واستشعر كلمات خداعهم قبل أن تحملها لي الشفاه.
أنا لا احكي لك مصابي لترتدي أمامي ثوب الواعظ وتأمرني بصلاة الاستغفار ولا أريدك ان تتحسس معي خطى هذا الرجل وتتربص به في مكان. فالقضية اليوم أكبر من سنوات خمس مضت وأكثر إيلاما من جرح تحملته على مضض .. فبعد أيام سبعة سأزف إلى زوجي وسأرتدي فستان الفرح الأبيض. بعد أيام سبعة سيحملني رجل شريف نظيف إلى بيت أسسه بأحلام العمر.
بيت لن أصرخ فيه صرخة العفة ولن تنعم ملاءته البيضاء بقطرات من دم الشريفات. أيام سبعة ويتحول الفرح الكبير إلى مأتم تبكي فيه الأم وتلعن اليوم والساعة التي وهبت فيها إلى الدنيا فتاة مثلي.
اجبني يا صديقي فلقد جئتك أبحث في داخلك عن طبيب ولا أظن أنني أخطأت الأسم والمكان والعنوان.
لم يستطع الجواب وصفعته الكلمات بل وأفاقته من عبثية ومراهقة متأخرة كان يتعامل بها...دموع الجميلة أعادت له وقار الرجال الذي غاب مع سحائب نزوة فكر.
قال.. سامحيني فلن أجيبك الآن. دعيني ليوم واحد ووعدها بألا يحرمها أمانة الجواب.
أدار محرك سيارته واتجه إلى حيث لا هدف وبدأ يستعيد الرواية من الحرف الأول حتى الأخير. حوار طويل دار بينه وبين نفسه.. هل يا ترى هذه الدموع هي دموع الندم على خطيئة عمر أم أنها وسيلة لإستجداء عطف رجل مثلي كي يمد لها اليد ويعينها على لحظة فارقة في عمرها؟! هل هذه الفتاة استمرت العبث وتاجرت بجمالها وعاشت مع كثير قصص الرذيلة أم انها صادقة فيما تروي وإنها ضحية من ضحايا ذئاب عاشت في الدنيا لتنهش أعراض البشر.
هل أصابت الجميلة أم أخطأت يوم أن طرقت بيديها باب مكتبي. ماذا أفعل وما أنا بطبيب أداوي بمشرطي جراح الغير.. حتى ولو كنت طبيبا كيف أرتضي أن يرتدي الستر ثوب الخداع وتفرح أنثى ويهان رجل؟
وما بين كلمة ورد وسؤال وجواب وجد نفسه يوقف محرك سيارته في مكان هادئ ويصمت المتأملين.
ولأنها كانت تشعر حيرته وتدرك مقدار فزعه مما سمع هاتفته سريعا لتقول.. يا صديقي لم يعد باقيا على ميعاد موتي الا ساعات سأموت بعد قرع الدفوف والطبول وسأساق برقصات الأحبة إلى قبر النهاية ساعدني واحملني على جناح الفوز مرة فما أتعسها يا صديقي حياة المهزومين.
انتهت المكالمة وتحرك الرجل الورق إلى عيادة طبيب من أصدقائه القدامى وطلب منه أن يجري هذه الجراحة مهما تكلف الأمر من ثمن. وبعد مساومات بينهما كان وقودها المال اتفقا أن تكون العيادة في الغد مكانا لإعادة الشرف المضاع والعفة المسروقة.
حضرت الجميلة وبدأ المشرط العفن يعبث بالجسد ليصلح ما أفسدته المتع والنزوات وليصيب ثوب الأمانة الأبيض ببقع من زيف وخداع.
الطبيب قدّم لها نصائحه بعدم الرقص ولا الخطو السريع وكذا التأني في سيرها قدر المستطاع وأكد لها أن جراحة كهذه غير مأمونة العواقب وعليها أن تكون الأحرص على ظلمة المكان فالنور يا سيدتي عدو الخداع.
في صباح اليوم التالي فوجئ الرجل الورق بدعوة راقية على مكتبة لحضور زفاف الجميلة بأحد فنادق القاهرة الكبرى. حاول أن ينأى بنفسه عن مشهد كهذا ولكن الفضول ساقه للمكان. وقف يرمق المشهد من بعيد ويلمس فرحة الأب وسعادة الام ويسمع زغاريد الحضور ويرى بعينيه العريس وقد ارتدى بدلته الأنيقة والناس من حوله يمطرونه بقبلاته التهاني أما هي فكانت بحق جميلة الجميلات بفستانها الأبيض بطيئة الخطى بأمر الطبيب لا بأمر الخجل. ليلة كانت من أجمل ليالي العمر الكل فيها سعيد إلا انا والجميلة والسماء...أنا والجميلة نبكي من داخلنا والسماء من فوقنا تمطرنا بأقسى اللعنات.
تحرّك بسيارته لا يدري هل هو حزين أم سعيد وفجأة علت ضحكاته لماذا لم تفصح الجميلة عن مطلبها وأخرج من جيبه ورقة مكتوب عليها.. (أرجو الاهتمام فحاملة الخطاب تستحق) نعم يا صديقي تستحق. وأنت أيضاً تستحق.